حجة الرسول صلى الله عليه و سلم
حجة الوداع
بسم الله الرحمن الرحيم
روى مسلم، قال: " حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعاً عَنْ حَاتِمٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَعِيلَ الْمَدَنِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَ عَنِ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ فَقُلْتُ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِي فَنَزَعَ زِرِّي الأَْعْلَى ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الأَْسْفَلَ ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلاَمٌ شَابٌّ فَقَالَ مَرْحَباً بِكَ يَا ابْنَ أَخِي سَلْ عَمَّا شِئْتَ فَسَأَلْتُهُ وَهُوَ أَعْمَى وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلاَةِ فَقَامَ فِي نِسَاجَةٍ مُلْتَحِفاً بِهَا (1) كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبِهِ رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيْهِ مِنْ صِغَرِهَا وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبِهِ عَلَى الْمِشْجَبِ (2) فَصَلَّى بِنَا فَقُلْتُ أَخْبِرْنِي عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بِيَدِهِ فَعَقَدَ تِسْعاً فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ (3) لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجٌّ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ أَصْنَعُ قَالَ اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي (4) بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ (5) حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ فَأَهَلَّ (6) بِالتَّوْحِيدِ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ شَيْئاً مِنْهُ وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ قَالَ جَابِرٌ رَضِي الله عَنْهم لَسْنَا نَنْوِي إِلاَّ الْحَجَّ لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلاَثاً وَمَشَى أَرْبَعاً ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَم فَقَرَأَ " وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مصلى * فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَكَانَ أَبِي يَقُولُ وَلاَ أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * و" َقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ " إِنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ * أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِيَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَْحْزَابَ وَحْدَهُ (7) ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ فَقَالَ لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لأَِبَدٍ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الأُْخْرَى وَقَالَ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ لاَ بَلْ لأَِبَدٍ أَبَدٍ وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ فَاطِمَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهَا مِمَّنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَاباً صَبِيغاً وَاكْتَحَلَتْ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ إِنَّ أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا قَالَ فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ بِالْعِرَاقِ فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَرِّشاً ( عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ مُسْتَفْتِياً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَ صَدَقَتْ صَدَقَتْ مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ قَالَ قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ قَالَ فَإِنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ فَلاَ تَحِلُّ قَالَ فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةً قَالَ فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا إِلاَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ (9) تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلاَّ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (10) فَأَجَازَ (11) رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حتى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ (12) لَهُ فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي (13) فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضِعاً فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ (14) وَأَوَّلُ رِباً أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ (15) يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئاً (16) ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ (17) بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفاً حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلاً حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ شَنَقَ (18) لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ (19) وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى (20)أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ كُلَّمَا أَتَى حَبْلاً مِنَ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلاً حَتَّى تَصْعَدَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئاً ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفاً حَتَّى أَسْفَرَ جِدّاً فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ وَكَانَ رَجُلاً حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيماً (21) فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ (22) يَجْرِينَ فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِّ الآْخَرِ يَنْظُرُ فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمَ يَدَهُ مِنَ الشِّقِّ الآْخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآْخَرِ يَنْظُرُ حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلاً ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى (23)الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي (24) ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلاَثاً وَسِتِّينَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَعْطَى عَلِيّاً فَنَحَرَ مَا غَبَرَ (25) وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ (26) فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكَلاَ مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ (27) فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَقَالَ انْزِعُوا (28) بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ (29) لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ فَنَاوَلُوهُ دَلْواً فَشَرِبَ مِنْهُ "(30).
قال العلماء: واعلم، أن هذا حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد، ونفائس من مهمات القواعد. قال القاضي عياض: قد تكلم الناس على ما فيه من الفقه، وأكثروا، وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءاً كبيراً، أخرج فيه من الفقه مائة ونيفاً وخمسين نوعاً. قال: ولو تقصى، لَزِيدَ على هذا العدد قريب منه.
قالوا: وفيه دلالة على أن غسل الإحرام سُنة للنفساء والحائض، ولغيرهما بالأولى. وعلى استثفار الحائض والنفساء، وعلى صحة إحرامهما، وأن يكون الإحرام عقب صلاة فرض أو نفل، وأن يرفع المحرم صوته بالتلبية، ويستحب الاقتصار على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا زاد فلا بأس؛ فقد زاد عمر: لبيك، ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك، مرهوباً منك، ومرغوباً إليك(31).
وأنه ينبغي للحاج القدوم أولاً إلى مكة؛ ليطوف طواف القدوم، وأن يستلم الركن _ الحجر الأسود _ قبل طوافه، ويرمل في الثلاثة الأشواط الأولى، والرَمل؛ أسرع المشي مع تقارب الخطا، وهو الخَبَبُ. وهذا الرمل يفعله، ما عدا الركنين اليمانيّين.
ثم يمشي أربعاً على عادته، وأنه يأتي بعد تمام طوافه مقام إبراهيم، ويتلو: " وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى " [البقرة: 125].
ثم يجعل المقام بينه وبين البيت، ويُصلي ركعتين، ويقرأ فيهما في الأولى - بعد الفاتحة _ سورة "الكافرون" وفي الثانية - بعد الفاتحة - سورة "الإخلاص".
ودل الحديث على أنه يشرع له الاستلام عند الخروج من المسجد، كما فعله عند الدخول.
واتفق العلماء على أن الاستلام سنة، وأنه يسعى بعد الطواف، ويبدأ من الصفا ويرقى إلى أعلاه، ويقف عليه مستقبل القبلة، ويذكر اللّه تعالى بهذا الذكر، ويدعو ثلاث مرات، ويرمل في بطن الوادي، وهو الذي يقال له: بين الميلين. وهو _ أي؛ الرمَل _ مشروع في كل مرة من السبعة الأشواط، لا في الثلاثة الأول، كما في طواف القدوم بالبيت، وأنه يرقى أيضاً على المروة كما رقي على الصفا، ويذكر ويدعو، وبتمام ذلك تتم عمرته. فإن حلق أو قصر، صار حلالاً.
وهكذا فعل الصحابة، الذين أمرهم صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج إلى العمرة.
وأما من كان قارناً، فإنه لا يحلق ولا يقصِّر، ويبقى على إحرامه، ثم في يوم التروية - وهو الثامن من ذي الحجة - يحرم من أراد الحج ممن حلَّ من عُمرته، ويذهب هو ومن كان قارناً إلى مِنى. والسُّنة، أن يصلي بمنى الصلوات الخمس، وأن يبيت بها هذه الليلة، وهي ليلة التاسع من ذي الحجة.
ومن السُّنة كذلك، ألا يخرج يوم عرفة من منى، إلا بعد طلوع الشمس، ولا يدخل عرفات، إلا بعد زوال الشمس، وبعد صلاة الظهر والعصر جميعاً بعرفات؛ فإنه صلى الله عليه وسلم نزل بنمرة وليست من عرفات، ولم يدخل صلى الله عليه وسلم الموقف، إلا بعد الصلاتين.
ومن السنة، أن يصلي بينهما شيئاً، وأن يخطب الإمام الناس قبل الصلاة، وهذه إحدى الخطب المسنونة في الحج.
والثانية - أي؛ من الخطب المسنونة - يوم السابع من ذي الحجة، يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر.
والثالثة - أي؛ من الخطب المسنونة - يوم النحر.
والرابعة - يوم النّفْر الأول.
وفي الحديث سنن وآداب منها؛ أن يجعل الذهاب إلى الموقف عند فراغه من الصلاتين.
وأن يقف - في عرفات - راكباً أفضل.
وأن يقف عند الصخرات عند موقف النبي صلى الله عليه وسلم، أو قريباً منه.
وأن يقف مستقبل القبلة.
وأن يبقى في الموقف، حتى تغرب الشمس.
ويكون في وقوفه داعياً للّه _ عز وجل _ رافعاً يديه إلى صدره، وأن يدفع بعد تحقق غروب الشمس بالسَّكينة، ويأمر الناس بها إن كان مطاعاً.
فإذا أتى المزدلفة، نزل وصلى المغرب والعشاء جمعاً، بأذان واحد وإقامتين، دون أن يتطوع بينهما شيئاً من الصلوات. وهذا الجمع متفق عليه بين العلماء، وإنما اختلفوا في سببه؛ فقيل: إنه نُسُك. وقيل: لأنهم مسافرون. أي؛ السفر هو العلة لمشروعية الجمع.
ومن السنن؛ المبيت بمزدلفة، وهو مُجمَع على أنه نسك، وإنما اختلفوا في كونه - أي؛ المبيت - واجباً أو سنة، ومن السنة أن يصلي الصبح في المزدلفة، ثم يدفع منها بعد ذلك، فيأتي المشعر الحرام، فيقف به ويدعو، والوقوف عنده من المناسك.
ثم يدفع منه عند إسفار الفجر إسفاراً بليغاً، فيأتي بطن مُحسِّر، فيسرع السّيْرَ فيه؛ لأنه محلٌّ غَضِبَ اللّه فيه على أصحاب الفيل، فلا ينبغي الأناة فيه، ولا البقاء فيه.
فإذا أتى الجمرة - وهي جمرة العقبة - نزل ببطن الوادي، ورماها بسبع حصيات، كل حصاة كحبة البَاقلاء - أي؛ الفول - يكبّر مع كل حصاة.
ثم ينصرف بعد ذلك إلى النحر فينحر، إن كان عنده هدي، ثم يحلق بعد نحره، ثم يرجع إلى مكة فيطوف طواف الإفاضة، وهو الذي يقال له: طواف الزيارة.
ومن بعده يحل له كل ما حَرُمَ عليه بالإحرام، حتى وَطْءُ النساء.
وأما إذا رمى جمرة العقبة، ولم يطف هذا الطواف، فإنه يحل له كل شيء، ما عدا النساء.
هذا هو هَدْيُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجِّه، والآتي به مقتدٍ به صلى الله عليه وسلم، وممتثل لقوله: "خُذُوا عني مَنَاسكَكُم"(32). وحجه صحيح.
وإليك تفصيل هذه الأعمال، وبيان آراء العلماء، ومذهب كل منهم في كل عمل من أعمال الحج.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) نساجة: ثوب كالطَّيْلَسَان.
(2) مشجب: اسم لأعواد يوضع عليها الثياب، ومتاع البدن "الشماعة".
(3) مكث تسع سنين: أي؛ بالمدينة.
(4) الاستثفار: أن تشد في وسطها شيئاً، وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم، وتشد طرفيها من قدامها ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها؛ لمنع سيلان الدم.
(5) القَصْوَاءُ: اسم لناقة النبي صلى الله عليه وسلم.
(6) أهل: من الإهلال: وهو رفع الصوت بالتلبية.
(7) "هزم الأحزاب وحده". معناه: هزمهم بغير قتال من الآدميين، ولا بسبب من جهتهم، والمراد بالأحزاب: الذين تحزبوا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم الخندق.
( التحريش: الإغراء، والمراد هنا، أن يذكر له ما يقضي عتابها.
(9) يوم التروية: هو اليوم الثامن من ذي الحجة.
(10) كانت قريش في الجاهلية تقف بالمشْعَرِ الحرام، وهو جبل بالمزدلفة، يقال له: قزح. وقيل: إن المشعر الحرام كل المزدلفة، وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة، ويقفون بعرفات، فظنت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف في المشعر الحرام على عادتهم ولا يتجاوزه. فتجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عرفات؛ لأن اللّه تعالى أمره بذلك، في قوله تعالى: "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس*. أي؛ سائر الناس العرب، غير قريش، وإنما كانت قريش تقف بالمزدلفة؛ لأنها من الحرم، وكانوا يقولون: نحن أهل حرم اللّه، فلا نخرج منه.
(11) فأجاز: أي؛ جاوز المزدلفة ولم يقف بها، بل توجه إلى عرفات.
(12) فرحلت: أي؛ جعل عليها الرحل (13) بطن الوادي: هو وادي عرفة. (14) موضوع: أي؛ باطل.
(15) فقال بإصبعه السبابة: أي؛ يقلبها ويردها إلى الناس، مشيراً إليهم.
(16) فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما... إلخ". فيه دليل على أنه يشرع الجمع بين الظهر والعصر هناك في ذلك اليوم، وقد أجمعت الأمة عليه، واختلفوا في سببه؛ فقيل: بسبب النسك. وهو مذهب أبي حنيفة، وبعض أصحاب الشافعي. وقال أكثر أصحاب الشافعي: هو بسبب السفر. (17) جبل المشاة: أي؛ مجتمعهم. (18) شنق: أي؛ ضم وضيق.
(19) المورك: الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل، إذا مل من الركوب.
(20) يقول بيده: أي؛ يشير بها قائلاً: الزموا السكينة وهي الرفق والطمأنينة.
(21) وسيماً: أي؛ جميلاً.
(22) الظعن: جمع ظعينة؛ وهي البعير الذي عليه امرأة، ثم سميت به المرأة مجازاً؛ لملابستها البعير.
(23) قوله: ثم سلك الطريق الوسطى. فيه دليل على أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنة، وهو غير الطريق الذي ذهب به إلى عرفات، وكان قد ذهب إلى عرفات من طريق ضب؛ ليخالف الطريق، كما كان يفعل في الخروج إلى العيدين، في مخالفته طريق الذهاب والإياب.
(24) قوله: رمى من بطن الوادي: أي؛ بحيث تكون منى، و عرفات، و المزدلفة عن يمينه، ومكة عن يساره.
(25) قوله: فنحر ثلاثاً وستين... إلخ. فيه دليل على استحباب تكثير الهدي، وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة مائة بدنة، و"غبر" أي؛ بقي.
(26) البَضْعَة: أي؛ القطعة من اللحم.
(27) "فأفاض إلى البيت". أي؛ طاف بالبيت طواف الإفاضة، ثم صلى الظهر.
(28) "انزعوا ". أي؛ استقوا بالدلاء، وانزعوها بالرشاء "الحبال".
(29) "فلولا أن يغلبكم الناس..." معناه: لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحمون عليه، بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء، لاستقيت معكم؛ لكثرة فضيلة هذا الاستقاء.
(30) مسلم (2 / 886) 15ـ كتاب الحج، 19 - باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
(31) أخرجه ابن أبي شيبة، في "مصنفه"، انظر "الفتح"، (3 / 479).
(32) رواه البيهقي (5 / 125) وعند النسائي (5 / 270، 24) - كتاب مناسك الحج، 22 - باب الركوب إلى الجمار، وروايته: "خذوا مناسككم"، ومسند أحمد (3 / 318، 366).
المصدر فقة السنة